و لـٰـكنْ جِهادٌ ونِيَّــةٌ
نور عالم خليل الأميني
النيّةُ
أصلٌ من أصول الدين ، عَوَّلَ عليه الإسلامُ في بناء ما يَتَوخَّاه من سلوكيّات في
الإنسان ، وسلامة القصد في داخله ، وخيريّة الهدف الذي ينبغي أن يَتَبَنَّاه ،
كمسلم سَوِيّ ، سليم القلب ، عفيف الغاية ، نزيه القصد .
فالنيَّةُ
– وهي لغةُ القلب – هي التي تضع الخطَّ الفاصلَ بين السلوكيّة الصالحة والسلوكيّة
الفاسدة ؛ فصورُ الأعمال والسلوكيّات قد لا تحمل قيمةً في ميزان الله ، الذي
وَضَعَه للحسنات والسيِّئات ، إذا صدرت عن فساد النيّة ، وسوء القصد ، وضلال الهدف
؛ ومن هنا لم تكن عند الله عَزَّ وجلَّ قيمةٌ للأعمال الصالحة والممارسات الخيريّة
التي يقوم بها الكافرون . قال تعالى :
«مَثَلُ
الَّذِيْنَ كَفَرُوا بَرَبِّهم أَعْمـٰـلُهُمْ كَرَمَادِن
اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيْحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لاَيَقْدِرُوْنَ مِمَّا كَسَبُوا
عَلَىٰ شَيْءٍ ذٰلِكَ هُوَ الضَّلـٰـلُ الْبَعِيدُ»
(إبراهيم/18).
وقال:
«وَالَّذِينَ
كَفَرُوا أَعْمـٰـلُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْئَانُ مَاءً
حَتَّىٰ إِذا جَاءَه لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللهَ عِنْدَه فَوَفَّـٰـهُ
حِسَابَه وَاللهُ سَرِيْعُ الحِسَابِ»
(النور/39).
فلم
تَضِعْ أعمالهم ولم تذهب هدرًا ، إلاّ لأن نيّتهم قد فسدت ، وباطنهم قد خَوَىٰ
، لأنه خلا من الإيمان بالله الذي بدونه لا تصحّ الأعمال ، ولا تصلح الآمال .
* * *
لقد
كانتِ الهجرةُ – ترك الوطن في سبيل الله – شرطاً من شروط الإيمان ، ومقياسًا كبيرًا
من مقاييس اليقين في الله عزّوجلّ ، وحبّه الصادق ، وإيثاره على ما يتعلّق به
الإنسان من صور المادّه غير القابلة للحصر. يقول تعالى:
«فَلاَ
تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّىٰ يُهَاجِرُوا في سبيل اللهِ»
(النساء/89) .
وقال
:
«وَالَّذِيْنَ
ءَامَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلـٰـيَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ
حَتَّىٰ يُهَاجِرُوا»
(الأنفال/72) .
إنّها
كانت حقًّا من أشقّ الأعمال على الذين آمنوا بالله ورسوله ، وعاشوا البلاء الشديد
والعذاب القاسي الذي صبّته قريش وغيرها من كفرة مكة ؛ حيث طُولِبوا إلى ذلك بتقديم
تضحية أخرى لم تكن أقلّ من التضحية التي ظلُّوا يُقَدِّمُونها عن رضا في سبيل
الإيمان بالله الذي خالطت بشاشتُه – الإيمان – قلوبَهم ؛ بل كانت أكبر منها وأشقّ ، وهي تركُ الوطن الأصليّ الذي
وُلِدُوا فيه، ونشأوا في تُرْبَته ، واستنشقوا هواءَه ، وأحبّوا كل شيء فيه ،
ولاسيّما لأن وطنهم مكّة كان محضنًا للحرم ولأوّل بيت وضِعَ للناس ليعبدوا فيه
الله وحده ؛ فقد ظلّوا يعتزّون به وبخدمته ومجاورته حتى في جاهليَّتهم ؛ ولكنهم قدّموا
هذه التضحية راضين مسرورين مُلَبِّين للأمر الإلهيّ .
من
ثم كانت الهجرة لها مكانةٌ لا تعدلها مكانةُ عبادة من العبادات ، وقد خُصُّوا بها
هم دون غيرهم ، فلم يكن كل الصحابة من المهاجرين ، فضلاً عن أن يكون منهم كلُّ
المسلمين ؛ ومن هنا استحقّوا الجزاءَ الأكبر من ربّهم ، ولم يستحقَّه غيرُهم من
المسلمين ، يقول تعالى :
«وَالَّذِينَ
هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي
الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلأجْرُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ»
(النحل/٤١).
* * *
وهذا
الأجر الأكبر ، والجزاء الأوفى الذي وعده
للمُهَاجِر، إنّما هو لمن كانت هجرتُه في الله، ولابتغاء وجه الله ،
والرغبة في ثوابه ، وانتصار دينه ، وإعلاء كلمته ؛ فمن كانت هجرتُه في غير الله ،
من دنيا يتوخّى أن ينالها من وراء الهجرة ، أو امرأة يودّ أن يفوز بها ، وينكحها
من خلال الهجرة التي قام بها ؛ فليس له عند الله شيء . كما كان عند ذاك مُهَاجِر
أمّ قيس ، هاجر مَعَ المهاجرين ، ولم تكن هجرتُه في الله ، وإنما كانت في امرأة
كان يحبّها ويُغْرَم بجمالها ، وأيضًا في حبّ المال الذي كان يرجو أن يكسبه في
المدينة عن طريق ممارسة التجارة التي كان يؤمّل أنها ستربح في سوقها ربحًا لا
تربحه في مكّة .
وقد
عَلِمَ بذلك النبيّ صلى الله عليه وسلم،
فأوضح حقيقةَ الأمر ، ومبدأَ الإسلام العظيم في الثواب والعقاب، وأنّ الله لاينظر
إلى مجرد صورة الأعمال ، وإنّما ينظر إلى حقيقتها وباطنها ونيّة القائم بها ، هل
هي له وحده تعالى أم هي لغيره من الأغراض الدنيويّة ، والمكاسب المادّيّة ؛ فقد
روى حكيمُ هذه الأمّة ، الذي كان مُقِلاًّ مُتَحَرِّيًا في الرواية عن النبيّ صلى الله
عليه وسلم ، والذي كان ينطق بالصواب ، سيّدنا عمر
بن الخطّاب رضي الله عنه ، قال: سمعتُ رسولَ الله صلى الله
عليه وسلم يقول :
«إنّما
الأعمال بالنيّات ، وإنّما لكل امرئ مانوى ؛ فمن كانت هجرتُه إلى الله ورسوله ،
فهجرتُه إلى الله ورسوله ، ومن كانت هجرتُه لدنيا يصيبُها أو امرأة ينكحها ،
فهجرتُه إلى ما هاجر إليه»
(البخاريّ: بدؤ الوحي ،كيف كان بدؤ الـوحي إلى رسول الله صلى الله
عليه وسلم،(1)؛
مسلم: الإمارة ، قوله صلى الله عليه وسلم
: «إنما الأعمال بالنيّات الخ»
(1907)).
إنّ
الهجرة كانت عبادةً من العبادات ؛ حيث كانت بأمر الله ، ومقياسًا للإيمان به ،
وكانتْ طريقًا مُبَاشِرًا إلى توطيد الدين ، وإتمام نور الله الذي حاول المشركون
جهدَهم أن يُطْفِئوه ؛ فلم تكن لتُقْبَل بنيّة فاسدة ، وغرض ضالّ ، وقصد مدخول .
وهكذا جميعُ العبادات من الصلاة والصيام والزكاة والحجّ ، لاتصحّ بنيّة فاسدة ،
وقصد غير سليم ، مهما أفتى المُفْتُونَ بصحتها نظرًا لصورها الظاهرة ؛ حيث إنهم
لايطّلعون على باطن الإنسان وداخل القلوب ؛ ولكن الله الذي يعلم الغيب والسرّ
وأخفى الأمور، لن يثيب أحدًا على أعماله التي قام بها لنيّة مدخولة ؛ لأنّه أغنى
الشركاء ولا يتقبّل إلاّ ما كان خالصًا لوجهه الكريم .
* * *
كانت
الهجرةُ واجبةً في مطلع الإسلام ، وكانت دليلاً على صدق المسلم في إيمانه بربّه ،
واستجابته لنبيه صلى الله عليه وسلم
؛ فلمّا تمّ فتحُ مكة ، وتوطّد الإسلام ، واستقام أمر الدين ، أعلن النبيّ صلى الله
عليه وسلم يوم الفتح – كما روى عبد الله بن عبّاس
رضي الله عنهما – « لا هجرةَ
بعدَ الفتح ؛ ولكن جهادٌ ونيّةٌ ، وإذا استُنْفِرْتُم فاَنْفِزوا»
(رواه الجماعة إلاّ مالكاً في مُوَطَّئه : البخاري : الجهاد ، وجوب التنفير وما
يجب من الجهاد (2825) ؛ الترمذي: السير، ما جاء في الهجرة (1590) ؛ أبوداؤد:
الجهاد ، الهجرة هل انقطعت ؟ (2480) ؛ النسائي : البيعة ، الاختلاف في انقطاع
الهجرة (4169)).
يعني
من يودّ أن يستوفي الثوابَ ، فإن فاتته الهجرة لفوت وقته ، فإن طرق الخير، وأساليب
كسب الحسنات ، وادّخار الأجر ، والفوز بتكريم الله ، لم تنقطع ؛ فله أن يجاهد في
سبيل الله بنفسه وماله ؛ فالجهاد باقٍ بقاءَ الإسلام وماضٍ إلى يوم القيامة ؛ فعن
عليّ وجابر رضي الله عنهما ، قالا : قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم :
«...
والجهادُ ماضٍ إلى يوم القيامة ، مذ بعث اللهُ محمدًا صلى الله
عليه وسلم إلى آخر عصابة من المسلمين ، لاينقضُ
ذلك جورُ جائر ، ولا عدلُ عادل»
(الطبراني في الأوسط : 3/337، رقم الحديث: [4775]).
والجهادُ
في سبيل الله له ثوابٌ لا يُحْصَىٰ ، وللمجاهد مكانة لا تُقَدَّر، وقد
عَدَّدَ القرآنُ الكريمُ فضائلَه في آيات كثيرة ، منها قولُه تعالى:
«لا
يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ
وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوٰلِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ
فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوٰلِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى
الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً»
(النساء/95-96) .
ومنها
:
«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى
تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ، تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ
فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَٰلِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ
إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ، يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّـٰـتٍ
تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّـٰـتِ
عَدْنٍ ، ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ، وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ
اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ، وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ» (الصف/10-13).
أمّا
الأحاديثُ في فضل الجهاد ، فهي أكثر من أن تُحْصَر، كما قال الإمام النووي في «رياض
الصالحين» .
ومنها
:
«عَنْ
أبي هُريرَةَ ، رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ، قالَ : سئِلَ رسولُ اللهِ ، صلى الله
عليه وسلم : أَيُّ الأعمالِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: «إيمانٌ
باللهِ ورَسولِهِ» قِيلَ : ثمّ
مَاذَا؟ قَالَ: «الجهَادُ في
سبِيلِ اللهِ» قِيلَ: ثمَّ
ماذا؟ قالَ: «حَجُّ
مَبرُورٌ» متفقٌ عليهِ (البخاري 3/302؛ مسلم(83)).
وَعَنْ
أبِي ذَرٍّ، رَضِيَ اللهُ عنهُ، قَالَ: قُلْتُ يَارَسُولَ الله أَيُّ العَمَلِ
أَفْضَلُ؟ قَالَ: «الإيمَانُ
بِاللهِ، وَالجِهَادُ في سَبِيلِهِ»
مُتفقٌ عليهِ (البخاري 5/105؛ مسلم(84)).
وَعَنْ
أَبِي سَعِيدٍ الْخَدْرِيِّ ، رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: أَتى رَجُلٌ رَسُولَ
الله، صلى الله عليه وسلم، فقال: أَيُّ
النَّاسِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: «مُؤْمِنٌ
يُجَاهِدُ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فِي سَبِيلِ اللهِ»
قال: ثـُمَّ مَنْ؟ قَالَ: «مُؤْمِنٌ
في شِعْبٍ مِنَ الشِّعَابِ يَعْبُدُ اللهَ، وَيَدَعُ النَّاسَ مِنْ شَرِّهِ»
متفقٌ عليه (البخاري 6/4؛ مسلم (1888)؛ أبوداؤد (21485)؛ الترمذي (1660)؛ النسائي
6/11).
وَعَنْ
سَلْمَانَ، رَضِيَ اللهُ عَنهُ، قالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ الله، صلى الله
عليه وسلم يَقُولُ : «رِبَاطُ
يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ خَيْرٌ مِنْ صِيَامِ شَهْرٍ وَقِيَامِهِ، وَإنْ مَاتَ فِيهِ
جَرَى عَلَيْهِ عَمَلُهُ الَّذِي كانَ يَعْمَلُ، وَأُجْرِيَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ،
وَأَمِنَ الفَتَّانَ» رواهُ
مُسلمٌ (1913)؛ الترمذي (1665)؛ النسائي 6/39).
وعَنْ
فضَالَةَ بن عُبَيْد، رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أنَّ رَسُولَ اللهِ ، صلى الله
عليه وسلم ، قال: «كُلُّ
مَيِّتٍ يُخْتَمُ عَلَى عَمَلِهِ إلاَّ المُرَابِطَ فِي سَبِيلِ الله؛ فَإنَّهُ
يُنْمَى لهُ عَمَلُهُ إلى يَوْمِ القِيَامَةِ، وَيُؤَمَّنُ من فِتْنَةِ القَبْرِ»
رواهُ أبوداؤد (2500)؛ الترمذي (1621) وسنده حسن وله شاهد عندهم من حديث عقبة بن
عامر يصح به). وَقَالَ الترمذيُّ : حديثٌ حَسَنٌ صحيحٌ .
وَعَنْ
أَبِي هُريرةَ، رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رسولُ اللهِ ، صلى الله
عليه وسلم : «تَضَمَّنَ
اللهُ لِمَنْ خَرَجَ فِي سَبِيلِهِ، لا يُخْرِجُهُ إلاَّ جِهَادٌ في سَبِيلي ،
وَإيمانٌ بي وتَصْدِيقٌ بِرُسُلي؛ فهوَ ضامِنٌ عليَّ أن أُدْخِلَهُ الجَنَّةَ،
أَوْ أُرْجِعَهُ إلى مَنْزِلِهِ الَّذِي خَرَجَ مِنْهُ بما نَالَ مِنْ أَجْرٍ،
أَوْ غَنِيمَةٍ. وَالَّذِي نَفْسُ مَحَمَّدٍ بِيَدِهِ ما مِنْ كَلْمٍ يُكْلَمُ في
سَبيلِ اللهِ إلاَّ جاءَ يَوْمَ القِيَامةِ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ كُلِمَ؛ لَوْنُه
لَوْنُ دَمٍ، وَرِيحُهُ رِيحُ مِسْكٍ. وَالَّذي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَوْلا
أَنْ أَشُقَّ عَلى المُسْلِمِيْنَ مَا قَعَدْتُ خِلافَ سَرِيَّةٍ تَغْزُو فِي
سَبِيلِ اللهِ أَبَدًا ؛ وَلكِنْ لا أَجِدُ سَعَةً فأَحْمِلَهمْ وَلاَ يَجدُونَ
سَعَةً، وَيَشُقُّ عَلَيْهِمْ أَن يتَخَلَّفوا عَنِّي. وَالَّذي نَفسُ مُحَمَّدٍ
بِيَدِهِ ، لَوَدِدْتُ أَن أَغزوَ في سَبِيلِ اللهِ، فَأُقْتَلَ، ثـُمَّ أَغزوَ،
فَأُقتلَ، ثـُمَّ أَغزوَ؛ فَأُقتلَ. رواهُ مُسلم (1876)؛ البخاري 6/154) وروى
البخاريُّ بَعْضَهُ .
وعَنْهُ
قَالَ : قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ، ما يَعْدِلُ الجِهَادَ في سَبِيلِ اللهِ؟
قَالَ: «لاتَسْتَطِيعُونَهُ»
فَأَعَادُوا عليه مَرَّتَيْنِ أو ثـَلاثاً كُلَّ ذلكَ يقول: «لاتَستَطِيعُونَ».
ثمَّ قالَ: «مَثل
المُجَاهِدَ في سَبيلِ اللهِ كَمَثَلِ الصَّائمِ القَائمِ القَانِتِ بآياتِ اللهِ
لا يَفْتُرُ: مِنْ صَلاةٍ، ولا صِيامٍ، حَتى يَرجِعَ المجَاهِدُ في سَبيلِ الله»
متفق عليه ( البخاري 6/3؛ مسلم (1878)؛ النسائي 6/19). وهذا لفظُ مسلمٍ.
وفي
روايةِ البخاريِّ، أنَّ رَجلاً قَالَ: يا رَسُولَ اللهِ دُلَّني عَلى عَمَلٍ
يَعْدِلُ الجِهَادَ؟ قالَ: «لا
أَجِدهُ» ثمَّ قال: «هَلْ
تَستَطِيعُ إذا خَرَجَ المُجَاهِدُ أن تَدخُلَ مَسجِدَكَ فَتَقُومَ وَلا تَفتُرَ،
وتَصُومَ ولا تُفطِرَ؟»
فقَالَ: ومَنْ يستطِيعُ ذَلكَ؟.
وَعَنْهُ،
أنَّ رسولَ اللهِ – صلى الله عليه وسلم
– قالَ: «إنَّ في الجَنَّةِ
مائـَةَ دَرَجةٍ أَعَدَّهَا اللهُ للمُجَاهِدِينَ في سَبِيلِ اللهِ ما بَيْنَ
الدَّرَجَتَيْنِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاء وَالأرضِ»
رواهُ البخاريُّ (6/9،10).
وعَن
أَبي سَعيدٍ الخُدْرِيِّ، رضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ رسُولُ اللهِ – صلى الله
عليه وسلم – قَال: «مَنْ
رَضِيَ بِاللهِ رَبًّا، وَبالإسْلامِ دينًا، وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولاً؛ وَجَبَتْ
لَهُ الجَنَّةُ» فَعَجِبَ
لَهَا أبوسَعيدٍ، فَقَالَ أَعِدْها عَلَيَّ يا رَسولَ اللهِ، فَأَعَادَهَا
عَلَيْهِ، ثـُمَّ قَالَ: «وَأُخْرَى
يَرْفَعُ اللهُ بِها العَبْدَ مائَةَ دَرَجَةٍ في الجَنَّةِ، ما بَيْنَ كُلِّ
دَرَجَتَيْنِ كَمَا بَيْنَ السَّماء وَالأرْضِ»
قالَ: وما هِيَ يَا رسول اللهِ؟ قال: «الجِهادُ
في سَبِيلِ اللهِ، الجِهادُ في سَبِيلِ اللهِ»
رواهُ مُسلمٌ (1884)؛ النسائي 6/19، 20).
وَعَن
أبي عَبْسٍ عبدِ الرَّحمنِ بنِ جَبْرٍ، رَضِيَ اللهُ عنهُ، قالَ: قَالَ رَسُولُ
اللهِ – صلى الله عليه وسلم–
: «مَا اغْبَرَّت قَدَمَا عَبْدٍ في
سَبِيلِ اللهِ فَتَمَسَّه النَّارُ»
رواهُ البُخاريُّ (6/23).
وَعَنْ
أبي هُرَيرَةَ، رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ – صلى الله
عليه وسلم. «لايَلِجُ
النَّارَ رَجُلٌ بَكَى مِنْ خَشْيَةِ اللهِ حَتَّى يَعُودَ اللَّبَن في الضَّرعِ،
وَلاَ يَجْتَمِعُ عَلَى عَبْدٍ غُبَارٌ في سَبِيلِ اللهِ وَدَخَانُ جَهَنَّمَ»
رواه الترمذيُّ(1633)؛ النسائي 6/12 وإسناده صحيح وصحَّحه الحاكم في مستدركه.
وقالَ الترمذيُّ : حديثٌ حسنٌ صحيحٌ .
وَعَنِ
ابنِ عبَّاسٍ، رَضِيَ الله عَنْهُمَا، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ – صلى الله
عليه وسلم – يَقُولُ: «عَيْنَانِ
لاتَمَسُّهُمَا النَّار: عَيْنٌ بَكَت مِنْ خَشْيَةِ اللهِ، وَعَيْنٌ بَاتَت
تحْرُسُ في سَبِيلِ اللهِ»
رَواه الترمذيُّ (1639) وقالَ: حديثٌ حسنٌ.
وَعَنْ
أَنَسٍ، رَضِيَ الله عَنْه، أنَّ النَّبِيَّ – صلى الله
عليه وسلم – قالَ: «مَا
أَحَدٌ يَدْخُلُ الجَنَّةَ يُحِبُّ أَنْ يَرْجِعَ إلى الدُّنْيَا وَلَه مَا عَلى الأَرْضِ
مِنْ شَيْءٍ إلاَّ الشَّهيد، يَتَمَنَّى أَنْ يَرْجِعَ إلى الدُّنْيَا، فَيُقْتَلَ
عَشْرَ مَرَّاتٍ؛ لِمَا يَرَى مِنَ الكرامَةِ».
وفي
روايةٍ: «لِمَا يَرَى
مِنْ فَضْلِ الشَّهَادَةِ»
مُتفقٌ عليهِ (البخاري 6/25، مسلم (1877)؛ النسائي 6/36) من حديث عبادة بن الصامت.
وَعَنْ
عَبدِ اللهِ بنِ عَمرِو بنِ العاصِ، رَضِيَ الله عَنْهما ، أنَّ رَسُولَ اللهِ – صلى الله
عليه وسلم – قَالَ: «يَغْفِرُ
اللهُ للشَّهيدِ كُلَّ ذَنْبٍ إلاَّ الدَّيْنَ»
رواه مسلمٌ (1886 و 119 و 120).
وَعَنْ
أَبِي قَتَادَةَ، رَضِيَ الله عَنْه، أنَّ رَسُولَ اللهِ – صلى الله
عليه وسلم– قَامَ فيهمْ فَذَكَرَ أنَّ الجِهادَ
في سَبيلِ اللهِ، وَالإيمانَ بِاللهِ، أفْضَلُ الأَعْمَالِ، فَقَامَ رَجُلٌ،
فَقَالَ: يا رَسُولَ اللهِ أَرَأَيْتَ إنْ قُتِلْتُ في سَبيلِ اللهِ أتُكَفَّرُ
عَنِّي خَطَايَايَ؟ فَقَالَ لَهُ رَسولُ اللهِ – صلى الله
عليه وسلم: «نَعَمْ
إِنْ قُتِلْتَ في سَبيلِ اللهِ وَأَنْتَ صَابِرٌ، مَحْتسِبٌ مُقبِلٌ غيْرُ
مُدْبِرٍ» ثـُمَّ
قَالَ رَسُولُ اللهِ – صلى الله عليه وسلم:
«كَيْفَ قُلْتَ؟»
قَالَ: أَرَأَيْتَ إنْ قُتِلْتُ في سَبيلِ اللهِ أَتَكَفَّرُ عَنِّي خَطَايَايَ؟
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ – صلى الله عليه وسلم:
«نَعَمْ وَأَنْتَ صَابِرٌ مُحْتَسِبٌ،
مُقْبِلٌ غَيْرُ مُدْبِرٍ، إلاَّ الدَّيْنَ، فَإنَّ جِبْرِيلَ عليهِ السلامَ قَالَ
لي ذلكَ» رواهُ مسلمٌ (1885)، مُوَطَّأ مالك
2/461؛ الترمذي (1712)؛ النسائي 6/34).
* * *
أمّا
النيّةُ ، فقد سبق أنها هي أصلُ القيمة وراء كل عمل يقوم به المسلم ؛ حتى إنّ
الإيمان والجهاد ، والصلاة والصيام ، والزكاة والحجّ وغيره من العبادات التي
لاتُحْصَىٰ وأعمال الخير والحسنات التي لاتُعدُّ ، إنّما يتقبَّلها الله ،
إذا صاحبها الاحتساب والإخلاص له تعالى ، دون أن يكتنفها أيُّ غرض مادّيّ .
من
هنا قال العلماء: إنّ المراد في الحديث: «ولكن
جهاد ونيّة»: الجهاد مع
النيّة لكونه خالصًا له تعالى ؛ فمن قاتل رياءً ، ومن قاتل عصبيّة ، أو قاتل
لغيرهما من الأغراض ، لا يُعْتَبرُ ذلك جهادًا ، وَرَدَتْ في شأنه هذه الفضائل
الكثيرة التي لهج بذكرها كتاب الله وحديث رسول الله صلى الله
عليه وسلم ، وإنما يكون هدفًا فاسدًا ، وغرضًا
مادّيًّا تهواه النفس الأمّارة بالسوء .
ومُعْظَمُ
العلماء عمَّم النيّةَ في قوله صلى الله عليه وسلم
«ولكن جهاد ونيّةٌ»
يعني أن كل عمل صالح يصاحبه النيّة الخالصة والاحتساب وابتغاء الأجر من الله وحده،
يكون سببًا مُبَاشِرًا في ارتفاع الدرجات للعبد ، وعلوّ المكانة له لدى الله حسب
درجته في الإخلاص والاحتساب. وذلك يبقى ليوم القيامةِ؛ فإخلاص النيّة واحتساب
الأجر، لم يُحَدَّا يزمن، ولم يخصّا بعهد دون عهد ؛ فكلّ من تعمّد أن يجتنب
السيئات ، وأكثر من الحسنات ، وأخلص النيّة ، رُفِعَت له الدرجات ، وحُطَّتْ عنه
السيئات ، وكُفِّرَتْ عنه الخطايا التي يكون قد صدرت عنه عن عمد أو غير عمد ، مهما
كان زمانُه ومكانُه .
ومن
ثمّ وَرَدَ في حديث آخر أنّ المُهاجِرَ أصلاً هو من هَجَر ما نهى الله عنه ؛ لأن
المهاجر من مكة إلى المدينة إنّما احتسب الأجرَ وقصد ما نهى الله عنه من المكوث
بمكة في هذه الحالة التي كان قد صَعُبَ فيها الاحتفاظُ بالإيمان .
فعن
عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، قال : سمعت رسول الله صلى الله
عليه وسلم يقول : «المسلم
من سلم المسلمون من لسانه ويده ، والمُهَاجِرُ من
هَجـرَ ما نهى الله عنه»
(أبوداؤد: الجهاد، الهجرة هل انقطعت ؟؛ مختصر سنن أبي داؤد؛ 2/382؛ وأخرجه
البخاريّ وأخرج مسلم الطرفَ الأوّلَ من الحديث).
فالمهاجر
من هجر – ترك واجتنب – المعاصيَ والآثام وما نهى عنه الله ، وبادر إلى الطاعات
والحسنات وإلى كل ما أمره الله به من الأحكام والعبادات ، وحاول أن لايتأذى أحد من
قوله أو فعله .
ففي
حديث آخر رواه سيدنا أنس – رضي الله عنه – قال : قال النبي – صلى الله
عليه وسلم - : «المؤمن
من أمنه الناسُ ، والمسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده ، والمهاجر من هجر السوءَ
, والذي نفسي بيده لايدخل الجنّةَ عبدٌ لا يأمن جارُه بوائقَه».
(مجمع الزوائد ، الإسلام والإيمان ، 1/540؛ جمع الجوامع 2/593، رقم الحديث :
21/1/1158؛ أخرجه أيضًا أحمد في مسنده ؛ وأبو يعلى ، والبزّار) .
وكأنّ
المسلم الصادق المستحق لجنّة ربّه يَتَحَرَّىٰ كلَّ وقت أن لايتأذَّى أحد من المسلمين ولاسيّما الجيران من
أيّ من قوله أو فعله أو تصرّف من تصرّفاته . وذلك مبدأ عظيم قَرَّرَه الإسلام منذ
هذه القرون المتطاوله ، وأطلقه كميثاق إنساني لم يهتدِ إليه الإنسان حتى اليوم ،
في غنى عن الهدي الربَّاني السامي والتوجيه النبويّ الكريم .
وفي
الحديث تشديد كبير على من لا يراعي حقَّ الجيران ، ولا يبالي إلاّ بما يهمّه
وينفعه مهما تألّم منه من يساكنونه من الجيران والملاصقين في السكنى .
* * *
مناسبة
الذكرى العظيمة الخالدة الباقية للهجرة بدروسها وعظاتها وعظمتها ، تُذَكِّرنا كلّ
عام بأن نبادر إلى الالتزام بكل ما أمرنا به الله ورسوله، والاحتراز من كل ما
نهانا الله عنه ورسوله . وهما إطاران شاملان يستوعبان كلَّ خير للمسلم ، ولا
يتركان ما ينفعه في الدنيا والآخرة إلاّ ويستقصيانه .
فهي
تذكّرنا أن نبرحَ حالةَ الضعف والاستكانة، والقعود عن الإعداد المستطاع للقوة
المرهبة أعداءَنا وأعداءَ الله وآخرين لانعلمهم والله يعلمهم ؛ لأنّ المهاجرين على
عهد رسول الله – صلى الله عليه وسلم
– هجروا حالةَ الضعف إلى حاله القوة والغلبة والمنعة والانتصار عندما هاجروا إلى
الدار والقرار بانتقالهم من مكة إلى المدينة ؛ فلم تكن هذه هجرة صوريّه فقط ، و
إنما كانت هجرة باطنية داخليّة شاملة ؛ حيث أخذوا هناك بجميع أسباب الغلبة
والانتصار التي جعلتهم يومًا يفتحون مكة التي فرُّوا منها بدينهم ؛ ليحافظوا عليه
ويبلّغوه العالمَ .
فهل
نعي هذا الدرسَ العظيمَ القديم الجديد المتصل الحيَّ الذي تلقيه علينا دائمًا هذه
المناسبة العظيمة ، كما ظلّت تلقيه على من قبلنا عبرَ هذه المسافة الزمانية
الطويلة التي قطعها الإسلامُ؟! هل نعيه كما وَعَاه في التاريخ الإسلامي كثيرٌ من
أصحاب الحظوظ من أمّة محمد صلى الله عليه وسلم
فتبّؤوا مكانَهم في محراب التاريخ الإسلامي أو صفّه الأوّل على الأقل؟!
(
تحريرًا في الساعة 11 من صباح الأربعاء : 6/ محرم 1429هـ = 16/ يناير2008م )
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، الهند . محـرم – صفـر 1429هـ = ينايـر- فـبراير 2008م ، العـدد : 1-2 ، السنـة : 32.